التنمر الإلكتروني
التصنيف | مقالات وتدوينات |
وقت النشر |
2020/10/19
|
الردود |
0
|
مِثْلُ أيِّ اِخْتِرَاعٍ ذاعَ صيْتُهُ في أَرْجَاءِ المَعْمُورةِ، كانَ لظُهُورِ التكنولوجيا في العَالمِ أثَرًا ليسَ كأيِّ أثر؛ حيث يمكننا معرفة آثاره ذات البصمة الواضحة من خلال المقارنة ِ بين صورتين فقط، واحدة لِحَالِ العَالَمِ قَبْلَ ظهور مصطلح التكنلوجيا والأخرى للِحَالِ بَعْدَهُ! أراك تخيلت الموقف، فأحسنت المقارنة والإجابة معًا.
ولما كانت الثورة في مضمار الحياة قد اجتاحت معالمُها أغلبَ القطاعات والميادين، مما أدى لظهور مصطلحاتٍ جديدة ٍ تطلبتها الحياة العصرية بثوبها الجديدِ البراق الفاتنِ في عيون العَالَم أجمَعْ، ومن تلك التغيرات الواضحة تزاحمُ العالم ِ بوسائل إلكترونية ساهمت في الحد من صعوبات الحياة، وأوصلت الناس إلى مآربَ لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس!
وسط كل تلك المعتركات، أقحمت وسائل التواصل الاجتماعي نفسها بقوة جَرّارة، فقربت البعيد وجعلت من المساحات الشاسعة مما لا يرى آخره قرية صغيرة لا أفول للشمس فيها على الإطلاق، فمتى طلبت أهلها وجدتهم، وما عليك إلا عدة طرقات على أزرار تلك اللوحة الإلكترونية بجانب الحاسب الإلكتروني أو الهاتف المحمول صاحب اللقب (الذكي).
ولأن الناس مجبولون بفطرتهم على الخير والشر ، كان لكل شيء جانبان أحدهما فيه الخير والآخر فيه الشر، كان أيضا لهذا الفضاء الإلكتروني جانبان لا يلتقيان، بل يتسابقان تسابق صوت الرعد مع صورته وقت انهمار المطر، ورغم كل المزايا الجذابة للتكنلوجيا والفضاء الإلكتروني التي ذكرناها سريعا، إلا أنه ثمة مخاطر تحدق بكل واحد منا إزاء استخدام خاطئ لتلك الآلات من جهة، أو بسبب تسخيرها بشكل متعمد لإيذاء الآخرين، لأغراض لا ترتقي في قمتها إلى مستوى الإنسانية بشيء !
لم يقتصر إيذاء الآخرين على قتلهم بالبارود وأشكال الإيذاء المعروفة قديما، والتي يتخيلها العقل البشري بفطرته إن رأى أحرف تلك الكلمة، فقد أوجدت الظروف التكنولوجية صنوفا متعددة للاستخدامات غير السليمة لأدواتها، ويمكننا إطلاق اسم (التنمر الإلكتروني) على تلك الصور والأشكال التي تلحق بقصد أو بدون قصد ضررًا بالآخرين بواسطة وسائل إلكترونية متعددة.
وكما أن التنمر المعهود له أشكاله الشهيرة، من لفظي وبدني ونفسي وغيره، فإن التنمر الإلكتروني يكاد يكون مزاحما له في تلك الأنواع، بل على شاكلة أكبر وأوسع حين يصل الأمر لاستخدام ذلك الأذى والضرر بشكل مجتمع في وقت واحد!
لقد وجد التنمر الإلكتروني في عالم الإنترنت بيئة خصبة للانتشار، فلا حدود في ذلك العالم، ولا ضوابط تحكم أقوى من ضابط الإنسانية والضمير إن شئت التعبير.
تتنوع صور التنمر الإلكتروني، فقد يتعرض أحدنا في أي وقت لرسالة مجهولة تصل على البريد الإلكتروني، هذه الرسالة المجهولة لم ترسل لك صدفة!، إن مرسلها يبحث عن فريسته المجهولة أيضا، ولكن بلمح البصر ستتكشف هويتها حين تلامس أصابعك أزرار الفأرة لتفتح تلك الرسالة، إن الاختراق لأجهزة الحواسيب باستخدام رسائل فيها نوع من الخدعة يعتبر من أكثر الطرق شهرة وذيوعا، ورغم كثرة المحاذير منها كونها طريقة ذائعة الانتشار، إلا أن ضحاياها كثر ويكاد عددهم لا يتناقص البتة، لماذا يا ترى؟
هذا يعود إلى الطرق الخبيثة التي يُضَمِّنُها مرسلو تلك الرسائل، والتي تلامس حاجات المستقبلين، مثلا لا حصرًا: البحث عن وظيفة، أو الحصول على مال، الطريق نحو الهجرة، مساعدات، وغير ذلك من احتياجات البشرية.
إن التهديد بنشر معلومات خاصة بالشخص المستهدف تجعله يخضع لمحاولات الابتزاز، مما يؤثر على ظروف حياته المعيشية، وبالأخص النفسية منها، كذلك يعتبر القيام بانتحال شخصية ذات طابع رسمي، سواء أكانت فردية أم على شكل مؤسسات وغيرها، مستغلاً ذلك الاسم في نشر أكبر عدد من الشائعات دون الاكتراث لما تسببه من فوضى، وخلقِ حالةٍ من التّيهِ، شكلاً من أشكالِ التنمر الإلكتروني.
وشكل آخر قد يكون التعرض له أكثر سهولة من غيره، وهو التقاط صورة لشخص دون علمه والقيام بنشر هذه الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، على الرغم من كون الصورة الملتقطة في أغلب أحوالها صورة جيدة إلا أن نشرها يعتبر من أحد صور التنمر الإلكتروني، حتى وإن كان ذلك الأمر من غير سوء قصد!
هل أرسلت إلى أحدهم رسالة إلكترونية عبر البريد أو إحدى وسائل التواصل الإلكترونية، ولم تتلقَ ردا لفترة طويلة؟! بالتأكيد إن هذا الأمر حاصل مع معظمنا إن لم نبالغ بالقول فإنه مع الجميع بلا استثناء، لعلك تتساءل ما علاقة تلك الحالة بالتنمر الإلكتروني، إلا أن بعض المختصين النفسيين اعتبر هذا الإهمال - سواء كان متعمدا أو غير ذلك - تنمرا إلكترونيا!
إن وسائل التنمر الإلكتروني وصوره لا يمكن حصرها في هذا المقال، ولكننا يمكننا القول على سبيل الإجمال: إنَّ كلَّ توظيفٍ خاطئ لوسائل التكنلوجيا الحديثة مما يلحق ضررا في الأفراد أو الجماعات، يعتبر تنمرا إلكترونيا لا يقلُّ في أضراره - بل يزيد أحيانا- عن تلك التي يسببها التنمر التقليدي المعروف لدى الكثير.
فكم من بيانات مهمة فقدها أصحابها بسبب هجوم تطفلي من متنمرين أشقياء، ولعلك كنت أحد ضحايا فقدانك لكلمات الدخول لتطبيقاتك الإلكترونية بسبب اختراق تعرض له أحد أجهزة اتصالك الحديثة.
لك أن تتخيلَ حجمَ القلقِ والتوتر الذي يعيش فيه الشخص المستهدف، مما يعيق بشكلٍ أو بآخر حياته المهنية، أو الأسرية، وإن كان طالبًا أضف إليهما الحياة الدراسية!
لذلك، إذا ما نظرنا إلى أشكال التنمر الإلكتروني وصوره، وطبيعة المتنمرين من جهة، وكذلك طبيعة المستهدفين الضحايا من جهة أخرى، نجد أن العلاج لا يمكن أن يكون مسؤولية جهة معينة لوحدها، فلا المستهدف وحده قادرا على إيجاد حل ناجع، وذلك لأن يدا واحدةً لا تصفق!، ومن هنا كان التكاثف والتآزر في وجه هذا الشكل الخطير من التنمر، مطلبًا ضروريًا لكبح جماح شهوة الإيذاء والتشهير وغيرهما من الضرر.
فعلى صعيد الأسرة، يقع على عاتق ربها مسؤولية جمة في توعية أبنائه – خاصة من هم في سن الشباب- من محاذير استخدام الإنترنت، حتى إن هناك تطبيقات إلكترونية يمكن للأب تثبيتها على الهاتف المحمول الخاص بابنه، بحيث لا يمكن لذلك الابن أن يستقبل رسالة أو رابطا، أو تنزيل تطبيق وغيره، إلا بموافقة من الأب عبر خاصية الربط بين الهاتفين، وهنا تكمن أهمية الرقابة الأسرية، وعلى مستوى أهم من المسؤولية نجد المدرسة ملاذا آمنا لنشر المعلومات والثقافة التوعوية حول أشكال وصور التنمر، فالوقاية خير من قنطار علاج كما قال أجدادنا.
ومما لا شك فيه أن دور الأسرة والمدرسة لا يعفي الجهات الرسمية من محاربة هذا الفساد الإلكتروني، لأن المتنمر حديثا لا يقل في جرمه عن ذلك السارق، أو القاتل، أو قاطع الطريق، إنهم صور واحدة للفساد قديما وحديثا.
وختامًا، لا يخفى علينا الأثر الواضح والقوي الذي تركته ثورة الاتصال والإنترنت في عالمنا، يكاد لا يخلو بيت من الإنترنت أو من جهاز إلكتروني على الأقل، لذلك لا ندعو هنا إلى محاربة تلك الثورة والأجهزة، بل علينا محاربة الاستخدام الخاطئ لها، من خلال التوعوية المستمرة لأخطارها والحث الدائم على توظيفها بالشكل الأمثل والأنفع.
رباح محمد قنديل
التعليقات (0)
لم يتم إضافة ردود حتى الآن...